الاثنين، يوليو ٣٠، ٢٠٠٧

السادسة والنصف

أجلس في ذلك المقهي الأنيق الذي صرت أعشق الجلوس فيه بجوار الواجهة الزجاجية، أسأل السماء أن تمطر حتى يزيد استمتاعي بالمنظر، فيمر بذهنى تساؤل أخر.. متى عرفت أن السماء لا تعير سؤالي انتباها..

أجلس علي المقهى وحيدا تدق أمامي الساعة السادسة والنصف، متى أدركت أن هذا التوقيت أصبح يصيبني بغصة في الحلق.. ومتى أدركت أنه توقف عن ذلك.. تساؤلات أخرى..

أنظر إلي الساقي واسأله عن اسطوانة فيروز التي أعرف أنهم يضعونها هنا في مكان ما، تحلق فيروز حولي بصوتها بحيث يهيئ لي أني أري "الناي" ع "التلة القريبة".. يأتيني الشاي الكلاسيكي الذي لا أتناول غيره هنا بعد أن علمت أنهم لا يقدمون القهوة التركية .. فقط الاكسبريسو

لماذا لا أحب الاكسبريسو هل لأنه يذكرني بأننا في عصر السرعة.. الحب السريع والقذف السريع.. وأنا، مثل الكثير من أهل الجنوب، بطيء.. حتى أنى أتكلم ببطء..

أخرج من المقهي لأمارس هوايتي في المشي يمر الطريق في رأسي مليئا بالذكريات.. كيف كنت وكيف أصبحت.. المزيد من التساؤلات المطرودة من ذهنى يقطعها اهتزاز الكوبري.. صوت بائع الورد..

أصوات غير متناغمة للعديد من الشباب الخليجي الذي لا يحترم قانونا غير قانون المتعة.. لو كان هناك واحدا يحمل هذا الاسم- لايحترمون كبيرا ولا صغيرا.. وكان أكثر ما يضايقني أني مثل الكثير من مواليد شهر مارس.. أعشق الهدوء.

أغادر هذا كله متجها إلي البيت حيث تعودت أن أجلس، لا حزينا لا سعيدا.. لا أنا، أو لا أحد.. أمر من الباب لأري غريبا في المرآة لا أعرفه ولكنه يبدوا أنه يعرفني.. أحييه بيميني فيرد علي بيسراه.. أظن أني هو وأني قد أعرفني.. ولكني، مثل الكثيرون من جيلي، لا أعرف من أنا.

ألقي تحية المساء علي الجالسة بانتظاري.. أمي التي توقفت عن البكاء منذ أن قلت لها أني أريد أن أكل – في بعض الأحيان كانت تبكي الأمهات لآن الطفل يريد الطعام- تحضر لي الطعام وتغير منفضة السجائر مع كوب من الشاي بالنعناع.. تجلس قليلا بجواري وتنصرف.. أغمغم بالشكر.. فأنا، مثل أغلب الأبناء، لن أوفي أمي حقها.

أجلس في غرفتي المظلمة بين جهاز الكمبيوتر والتليفزيون الذي لا أغلقه طوال الليل علي الرغم من أني أعرف أنى لا أحب هذا الاختراع، أجلس مع لفافة تبغي ، تلك الوحيدة التي لن تفارقني يوما- إلا إذا ما لم أمتلك المال يوما لشرائها – انظر إلي الروايات المبعثرة حولي ومنها ثلاث يحملون إهداء .. يمر تساؤل جديد برأسي المرهق بعد منصف الليل بكثير .. هل أريد رواية أخري بإهداء أخر؟ ابتسم ساخرا وأقول أن هذا يتوقف علي نوع الإهداء، لأنهي النقاش بينما أنظر إلي هاتفي القابع بالقرب مني ينتظر مكالمة يعرف أنها لن تأتي، فانا – مثل الكثيرون- أهوى انتظار المكالمات.

يمضي الوقت بين القراءة والمشاهدة.. واستنشاق رائحة التبغ المنتشرة في الغرفة- التي أرفض أن تفتح نافذتها صباحا حتى تدخلها الشمس ويتغير هواءها- في الأوقات المستقطعة بين كل نفس وآخر من لفافتي.. أنظر إلي الساعة لآجدها تعلن السادسة والنصف فأتساءل لماذا أنا بكامل ثيابي علي الرغم من أن ميعاد استيقاظي يحين بعد نصف ساعة وأنا أعرف أني، مثل أهل الجنوب، لا أحب الاستيقاظ باكرا.

---------------------
الكلمات بألأحمر لمحمود درويش
اللوحة لـ Fabian Giclees

الجمعة، يوليو ٢٠، ٢٠٠٧

البائع الصغير




(1)

كان والده بائعا بسيطا في السوق المجاور للمنزل، يتجه ظهرا إلي السوق يفرش بضاعته المكونة من الأعشاب الطبية والبخور والشرائط الدينية وزيوت الشعر، وذات مرة أضاف لبضاعته بودرة "تلك"، وكان هو – التلميذ في الصف الثالث الابتدائي- يمر علي والده بعد انتهاء فترة الدوام المدرسي ليعود والده إلي المنزل ويبقي هو ليحل مكانه بائعا صغيرا..

في ذلك اليوم في المدرسة أعلنت أستاذة الفصل عن قيام الرحلة المقدسة لأطفال المدرسة .. رحلة إلي مصنع "بم بم" للحلويات وكذلك الحديقة الدولية مقابل أربعة جنيهات فقط.. وما أدراك ما كانت تلك الرحلة لهؤلاء الأطفال.. إنها الجنة، مصنع كامل من الحلويات يفتح أبوابه لهم، يمرون علي خطوط الإنتاج يحمل كل منهم كيس بلاستيكي أختلسه مساء من درج المطبخ فتضع فيه العاملات ما يجدن به على الأطفال، بالإضافة إلي "كشكول سلك" مرسوم عليه طفل أبيض ملفوف في ملابس بيضاء علي خلفية بيضاء ويزينه في الجانب العلوي شعار "بم بم".. يصبح أحد ممتلكات الطفل السحرية، بينما يمضي أياما يأكل بشراهة من كيس الحلوى المخبأ تحت المخدة محاولا إنهائه في أقصر وقت ممكن حتى لا تتكرر الغارات المتكررة علي الكيس من جانب الإخوة والأصدقاء.

بعد أن أنهى المدرسة توجه مسرعا إلي والده عارضا عليه الأمر قبل أن يبدأ الأب في رحلة عودته إلي المنزل، فقال له الوالد "أديك قاعد، لو بعت حاجات مكسبها فوق الأربعة جنيه أبقى روح الرحلة"..

(2)

يوم آخر في نفس المكان، نفس توقيت عودة الطفل من المدرسة إلي والده، وعودة والده إلي المنزل، يرحل الوالد ليبقى الطفل في مكانه يبيع ويشتري، وبين الحين والآخر يطالع كتبه المدرسية.. وبينما هو بين البيع والمطالعة كثرت الحركة في السوق بشغب وجري وصراخ الباعة بعضهم علي البعض: "البلدية.. البلدية".. هذا الهرج الذي يتكرر بين يوم وآخر..

وما أدراك ما البلدية للباعة، موظفو الحي الذين يجوبون الأسواق يلملمون البضائع من أصحابها بجريرة شغل الطريق.. فيجري الباعة يحملون ما يقدرون علي حمله من بضاعتهم.. فتقع الفاكهة والخضار علي الأرض لتهرسها أقدام المارة أو عجلات سياراتهم.. يأخذ الموظفون البضائع إلي مبنى الحي يقودهم أحد الضباط، ويذهب وراءهم الباعة لكي يحصل سعيد الحظ منهم علي بضاعته بعد دفع الغرامة المقررة ليعود إلي السوق في محاولة لبيعها مرة أخرى، لتعود البلدية من جديد.. وهكذا بمضي السوق..

كل الباعة كان لديهم خوفهم من البلدية.. أما هو فكان يحمل إلي جانب ذلك خوفه من رد فعل والده إذا ما أخذت البلدية البضاعة.. اقترب منه "ظابط البلدية" ليأخذ بضاعته كما يفعل بمن لا يستطيع حمل بضائعه والجري بها.. بكى الطفل وترجى الرجل أن يتركه.. نظر الضابط إلي بضائع الطفل نظرة متفحصة.. ثم أخذ منها علبة "بوردة تلك" رماها علي الطفل القابع في الأرض قائلا له: "لما تخلص عياط أبقى رش علي وشك من دي".. وأخذ البضاعة وذهب..

(3)

أنهى الطفل المرحلة الابتدائية وانتقل إلى الصف الأول الإعدادي، ونقل معه الوالد مكان عمله إلي الطرف الآخر من السوق.. الطرف القريب من المدرسة الإعدادية، وكما كان الحال من قبل.. ينهي مدرسته ليتوجه إلي والده ويذهب الوالد إلي البيت لتناول الغداء والراحة.. ولكن هذه المرة.. وبعد الانتقال إلي الطرف الآخر كانت هناك طريقة أخرى لتمضية الوقت.. كان هناك "سيد" بائع الجرائد..

فبجوار الوالد كان يقف أيضا بائع الجرائد بـ"فرشة" بها مجموعة من الجرائد والمجلات.. لم يكن التنوع كبيرا كأيامنا هذه.. ولكنه كان موجودا.. الأهرام والأخبار والجمهورية والوفد بكاريكاتير الصفحة الأولى والشعب عندما كانت هناك جريدة بهذا الاسم.. وميكي وماجد وعلاء الدين ونصف الدنيا والعربي وروز اليوسف – قبل كرملة وكيمو- ..فأشبع الولد متعته من القراءة المجانية يوميا ولمدة ثلاث سنوات كانت هذه هي متعته الثانية، فالأولى كانت رجل المستحيل وملف المستقبل من أيام الابتدائي.

والده الذي لم يطق يوما أدهم صبري أو محمود نور الدين كان يخبره أن يقرأ سورة "يس" كل يوم عندما يأتي لكي يرزقه الله بمشترين.. فسورة يس لما قُرأت له.. كان يفعل ولكن والده لم يصدقه لأنه كلما "كبس عليه" وجده يقرأ من بضاعة "سيد" بينما هو كان يقرأها بمجرد وصوله.. فوالده لم يخبره يوما أنها يجب أن تقرأ طوال الوقت.. إلي أن "كبس" الوالد في يوم

ووجده يقرأ ميكي.. قرصه بشده وقال له: "اقرأ في المصحف أحسن.. الكلام ده حرام".. ثم قطع المجلة وقال: "أبقى ادفع لسيد حقها من مصروفك".. مصروفه كان وقتها ربع جنيه..

(4)

في يوم أخبر الوالد طفله أنه عليه أن يوافيه "علي الفرش الساعة 6 علشان عندي مشوار".. تأخر الطفل عن موعده – فكل الأطفال يتأخرون – ذهب إلى والده.. نظرا له الوالد ثم ضربه بالقلم علي وجهه قبل أن يستمع لسبب تأخره.. ولم يستمع له قط.. بعدها بقليل أخبره أنه ضربه علشان "عايزك تتعلم تحترم مواعيدك زي الرجالة.. أنت لو واحد صاحبك قالك هنلعب كورة الساعة 6 هتتأخر عليه؟".. لم يكن يعرف أن ابنه لا يلعب الكرة كثيرا.. فهو "مش حريف"..

بعدها بيومين عاد الطفل من المدرسة كما تعود كل يوم.. طلب من والده أن يعود إليه الساعة السادسة مساء لأنه موعد الدرس المجاني.. الدرس الوحيد الذي يأخذه.. وافق والده.. بعد أن ذهب الوالد ذهب إلي "سيد" أخذ منه جريدته.. مر الوقت وأخذ سيد الجريدة ولم بضاعته وعاد إلي منزله.. بدء باعة السوق في لملة أغراضهم استعدادا للرحيل.. وهو مازال منتظرا..

مرت الساعات.. كان هو جالسا يقرأ في رياض الصالحين.. يأتي الوالد بعد التاسعة بكم لا يدري.. نظر له والده وقال له "أنت إيه اللي مقعدك لحد دلوقتي".. قال له: "كنت مستنيك علشان أنت قلتلي إنك هترجع".. قال له "معلش راحت عليا نومة.. يلا لم الحاجة علشان نروح"..

(5)

كان والده يبيع الشرائط الإسلامية.. ولكل من يبيع الشرائط مع انعدام وجود مصدر كهرباء حل سحري.. كاسيت سيارة يتم توصيله ببطارية جافة صغيرة من المستعملة في الموتسيكلات موصلة بمحول كهربي يتيح شحن البطارية من كهرباء المنزل وسماعات ويتم تجميع ذلك كله في صندوق خشبي.. ولمن لا يعرف هذه البطاريات تملأ من وقت لآخر بماء النار المخفف..

وهو كان عليه أن يحمل الصندوق الخشبي علي كتفه مساء في رحلة العودة للمنزل لشحن البطارية استعدادا ليوم العمل التالي.. مع حركة خطوات طفل صغير يحمل شيء ثقيل.. كانت قطرات ماء النار تتقافز من البطارية داخل الصندوق الخشبي.. خطوات أخرى تتساقط بعض القطرات علي كتف الصبي.. تخرق الملابس لتلسع الجلد..

وعلي الرغم من أن ماء النار مخففا.. إلا أنه كان يأتي مفعوله.. ويمارس دوره كأي سائل حمضي قوي يحترم نفسه.. فتتقافز أكثر خطوات الصبي.. ولكن هذه المرة لم يكن الحمل هو السبب.. لكنه الألم.

الاثنين، يوليو ١٦، ٢٠٠٧

عذرا زياد

هل أحببت طفلا من قبل.. طفلا ليس بابنك أو قريبك.. أحببته لمجرد أنه أكثر من طفل.. أحببت طفلا دون أن تدري لماذا وهو بادلك الحب دون أن تدرى أيضا لماذا..

لا تدري لماذا تقبل يديه كل دقيقة.. هل لان ملمسها يشبه ملمس يدا لم تعد ملكك.. لا تدري لماذا تقبل قدميه الصغيرتين كل صباح.. وتتساءل هل أنت تهوي تقبيل أقدام ليست ملكك..

زياد الذي لم يكمل الشهر السادس من عمره حالة مختلفة من الحب.. يراني أتيا فيتهلل.. اقترب من مهده فتتقافز أرجله ويديه في الهواء فرحا.. يناديني كي أحمله..

لا أدرى كيف تعلم طفلا صغيرا أن يعبس عندما أقول له "باي باي" وان يضحك عندما أقول له "هشرب سيجارة بره وجاى تاني".. تقول والدته أنه يبدو كالمكتئب يوم الأجازة.. وأنا اعرف أنه يكون سعيدا فحوله الكثيرون ممكن يحبوه..

غريب أمر زياد.. لا تدرى حقا كم هو غريب إلا عندما ترى نظرة عينيه عندما أضمه إلى صدري ويحس بعدم انتظام نبضاته بين الألم والندم.. حين يراني أبكي..

غريب أمر زياد حين يتركني أغنى له.. فهو يعلم أني لا أغني إلا عندما أكون طفلا.. فيتركني أغنى طفلا ويسمعني طفلا.. لا يتذمر عندما أغني له CELINE DION أو منير.. فعلي الرغم من أن أغاني الأوجاع لا تناسب سنه الصغير إلا أنه يتركني أغني.. فهو وحده يعلم كم أتألم وكيف أعيش.. ماذا أبصق وماذا أتقيء..

غريب أمر زياد.. فبدلا من يحس هو بالأمان معي طفل يمنحني هو الأمان والحنان.. فمن يتخيل أن طفلا يمنح الأمان.. عندما أبدأ في البكاء أضمه إلي صدري أكثر.. فيربت علي بكفيه الصغيرين يضعهما علي وجهي فأتجاوب معه وامسح ما انكفئ علي الوجع من دمع..

ما عرفته مع زياد لا أعتقد أنى سأعرفه مرة أخري.. ولذلك أتمني ان يذكرني عندما يكبر يوما ما.. ألا يكرهني يوما.. فأنا جيدا بما فيه الكفاية لكي أضيع أى حب حولي..

اليوم لم أستطع أن أحمله.. خفت أن يقع من يدي.. فبكيت..

عذرا زياد لقد وهن الذراع فلم يعد يقوي علي حملك..

وقبل أن أمضي.. ولأن الأطفال يرون الله..

من فضلك زياد لو رأيت الله أخبره أن يرحمني