
(1)
كان والده بائعا بسيطا في السوق المجاور للمنزل، يتجه ظهرا إلي السوق يفرش بضاعته المكونة من الأعشاب الطبية والبخور والشرائط الدينية وزيوت الشعر، وذات مرة أضاف لبضاعته بودرة "تلك"، وكان هو – التلميذ في الصف الثالث الابتدائي- يمر علي والده بعد انتهاء فترة الدوام المدرسي ليعود والده إلي المنزل ويبقي هو ليحل مكانه بائعا صغيرا..
في ذلك اليوم في المدرسة أعلنت أستاذة الفصل عن قيام الرحلة المقدسة لأطفال المدرسة .. رحلة إلي مصنع "بم بم" للحلويات وكذلك الحديقة الدولية مقابل أربعة جنيهات فقط.. وما أدراك ما كانت تلك الرحلة لهؤلاء الأطفال.. إنها الجنة، مصنع كامل من الحلويات يفتح أبوابه لهم، يمرون علي خطوط الإنتاج يحمل كل منهم كيس بلاستيكي أختلسه مساء من درج المطبخ فتضع فيه العاملات ما يجدن به على الأطفال، بالإضافة إلي "كشكول سلك" مرسوم عليه طفل أبيض ملفوف في ملابس بيضاء علي خلفية بيضاء ويزينه في الجانب العلوي شعار "بم بم".. يصبح أحد ممتلكات الطفل السحرية، بينما يمضي أياما يأكل بشراهة من كيس الحلوى المخبأ تحت المخدة محاولا إنهائه في أقصر وقت ممكن حتى لا تتكرر الغارات المتكررة علي الكيس من جانب الإخوة والأصدقاء.
بعد أن أنهى المدرسة توجه مسرعا إلي والده عارضا عليه الأمر قبل أن يبدأ الأب في رحلة عودته إلي المنزل، فقال له الوالد "أديك قاعد، لو بعت حاجات مكسبها فوق الأربعة جنيه أبقى روح الرحلة"..
(2)
يوم آخر في نفس المكان، نفس توقيت عودة الطفل من المدرسة إلي والده، وعودة والده إلي المنزل، يرحل الوالد ليبقى الطفل في مكانه يبيع ويشتري، وبين الحين والآخر يطالع كتبه المدرسية.. وبينما هو بين البيع والمطالعة كثرت الحركة في السوق بشغب وجري وصراخ الباعة بعضهم علي البعض: "البلدية.. البلدية".. هذا الهرج الذي يتكرر بين يوم وآخر..
وما أدراك ما البلدية للباعة، موظفو الحي الذين يجوبون الأسواق يلملمون البضائع من أصحابها بجريرة شغل الطريق.. فيجري الباعة يحملون ما يقدرون علي حمله من بضاعتهم.. فتقع الفاكهة والخضار علي الأرض لتهرسها أقدام المارة أو عجلات سياراتهم.. يأخذ الموظفون البضائع إلي مبنى الحي يقودهم أحد الضباط، ويذهب وراءهم الباعة لكي يحصل سعيد الحظ منهم علي بضاعته بعد دفع الغرامة المقررة ليعود إلي السوق في محاولة لبيعها مرة أخرى، لتعود البلدية من جديد.. وهكذا بمضي السوق..
كل الباعة كان لديهم خوفهم من البلدية.. أما هو فكان يحمل إلي جانب ذلك خوفه من رد فعل والده إذا ما أخذت البلدية البضاعة.. اقترب منه "ظابط البلدية" ليأخذ بضاعته كما يفعل بمن لا يستطيع حمل بضائعه والجري بها.. بكى الطفل وترجى الرجل أن يتركه.. نظر الضابط إلي بضائع الطفل نظرة متفحصة.. ثم أخذ منها علبة "بوردة تلك" رماها علي الطفل القابع في الأرض قائلا له: "لما تخلص عياط أبقى رش علي وشك من دي".. وأخذ البضاعة وذهب..
(3)
أنهى الطفل المرحلة الابتدائية وانتقل إلى الصف الأول الإعدادي، ونقل معه الوالد مكان عمله إلي الطرف الآخر من السوق.. الطرف القريب من المدرسة الإعدادية، وكما كان الحال من قبل.. ينهي مدرسته ليتوجه إلي والده ويذهب الوالد إلي البيت لتناول الغداء والراحة.. ولكن هذه المرة.. وبعد الانتقال إلي الطرف الآخر كانت هناك طريقة أخرى لتمضية الوقت.. كان هناك "سيد" بائع الجرائد..
فبجوار الوالد كان يقف أيضا بائع الجرائد بـ"فرشة" بها مجموعة من الجرائد والمجلات.. لم يكن التنوع كبيرا كأيامنا هذه.. ولكنه كان موجودا.. الأهرام والأخبار والجمهورية والوفد بكاريكاتير الصفحة الأولى والشعب عندما كانت هناك جريدة بهذا الاسم.. وميكي وماجد وعلاء الدين ونصف الدنيا والعربي وروز اليوسف – قبل كرملة وكيمو- ..فأشبع الولد متعته من القراءة المجانية يوميا ولمدة ثلاث سنوات كانت هذه هي متعته الثانية، فالأولى كانت رجل المستحيل وملف المستقبل من أيام الابتدائي.
والده الذي لم يطق يوما أدهم صبري أو محمود نور الدين كان يخبره أن يقرأ سورة "يس" كل يوم عندما يأتي لكي يرزقه الله بمشترين.. فسورة يس لما قُرأت له.. كان يفعل ولكن والده لم يصدقه لأنه كلما "كبس عليه" وجده يقرأ من بضاعة "سيد" بينما هو كان يقرأها بمجرد وصوله.. فوالده لم يخبره يوما أنها يجب أن تقرأ طوال الوقت.. إلي أن "كبس" الوالد في يوم
ووجده يقرأ ميكي.. قرصه بشده وقال له: "اقرأ في المصحف أحسن.. الكلام ده حرام".. ثم قطع المجلة وقال: "أبقى ادفع لسيد حقها من مصروفك".. مصروفه كان وقتها ربع جنيه..
(4)
في يوم أخبر الوالد طفله أنه عليه أن يوافيه "علي الفرش الساعة 6 علشان عندي مشوار".. تأخر الطفل عن موعده – فكل الأطفال يتأخرون – ذهب إلى والده.. نظرا له الوالد ثم ضربه بالقلم علي وجهه قبل أن يستمع لسبب تأخره.. ولم يستمع له قط.. بعدها بقليل أخبره أنه ضربه علشان "عايزك تتعلم تحترم مواعيدك زي الرجالة.. أنت لو واحد صاحبك قالك هنلعب كورة الساعة 6 هتتأخر عليه؟".. لم يكن يعرف أن ابنه لا يلعب الكرة كثيرا.. فهو "مش حريف"..
بعدها بيومين عاد الطفل من المدرسة كما تعود كل يوم.. طلب من والده أن يعود إليه الساعة السادسة مساء لأنه موعد الدرس المجاني.. الدرس الوحيد الذي يأخذه.. وافق والده.. بعد أن ذهب الوالد ذهب إلي "سيد" أخذ منه جريدته.. مر الوقت وأخذ سيد الجريدة ولم بضاعته وعاد إلي منزله.. بدء باعة السوق في لملة أغراضهم استعدادا للرحيل.. وهو مازال منتظرا..
مرت الساعات.. كان هو جالسا يقرأ في رياض الصالحين.. يأتي الوالد بعد التاسعة بكم لا يدري.. نظر له والده وقال له "أنت إيه اللي مقعدك لحد دلوقتي".. قال له: "كنت مستنيك علشان أنت قلتلي إنك هترجع".. قال له "معلش راحت عليا نومة.. يلا لم الحاجة علشان نروح"..
(5)
كان والده يبيع الشرائط الإسلامية.. ولكل من يبيع الشرائط مع انعدام وجود مصدر كهرباء حل سحري.. كاسيت سيارة يتم توصيله ببطارية جافة صغيرة من المستعملة في الموتسيكلات موصلة بمحول كهربي يتيح شحن البطارية من كهرباء المنزل وسماعات ويتم تجميع ذلك كله في صندوق خشبي.. ولمن لا يعرف هذه البطاريات تملأ من وقت لآخر بماء النار المخفف..
وهو كان عليه أن يحمل الصندوق الخشبي علي كتفه مساء في رحلة العودة للمنزل لشحن البطارية استعدادا ليوم العمل التالي.. مع حركة خطوات طفل صغير يحمل شيء ثقيل.. كانت قطرات ماء النار تتقافز من البطارية داخل الصندوق الخشبي.. خطوات أخرى تتساقط بعض القطرات علي كتف الصبي.. تخرق الملابس لتلسع الجلد..
وعلي الرغم من أن ماء النار مخففا.. إلا أنه كان يأتي مفعوله.. ويمارس دوره كأي سائل حمضي قوي يحترم نفسه.. فتتقافز أكثر خطوات الصبي.. ولكن هذه المرة لم يكن الحمل هو السبب.. لكنه الألم.